لمحة تاريخية
ليس من السهولة بمكان معرفة الحضارة أو
الحقبة الزمنية التي تعود إليها فكرة التأمين ، إذ إن من الصعب الكشف عن أول وثيقة
تأمين عرفها الإنسان على وجه اليقين([1])،
بيد أن الرأي الراجح يتجه إلى بوادر فكرة التأمين التي كانت معروفة لدى الشعوب
القديمة كالبابليين والهنود والرومان بشكلهما البسيط ، حيث ورد في قانون حمورابي
سنة 2250 قبل الميلاد إلى ما يشير إلى بديات التأمين البحري المعروف في يومنا هذا ([2])،
إذ إن فكرة التأمين كانت قائمة على شكل قرض على السفينة وعلى البضاعة لغرض نقل
الأضرار من صاحب السفينة والبضاعة لمقرضي المال الذين ابدوا موافقتهم على شطب
القرض إذا ما تعرضت السفينة لأضرار أثناء رحلتها وعند نجاتها سالمة إلى ميناء
الوصول ، فإن السفينة لا تكون مسؤولة عن تسديد مبلغ القرض إذا تعرضت لأضرار أثناء
رحلتها فقط بل أنها تسال عن فائدة محددة متفق عليها سلفاً([3])،
غير أن الحال لم يبق على وضعه ، إذ أخذ التأمين البحري يتطور بتطور النشاط التجاري
والملاحة البحرية خصوصاً في حوض البحر المتوسط حتى العصور الوسطى ، حيث كان بحارة
مدينة البندقية الإيطالية يتولون تنظيم عقود التأمين البحري مما ساعد على اللجوء
إلى الاكتتاب بقيام مكتتبي التأمين بتدوين أسمائهم في عقود التأمين انطلاقاً من
قبولهم بالأضرار البحرية ، وهذا ما وسع من انتشار التأمين([4])،
فدخل السوق الإنكليزية في القرن الرابع عشر الميلادي الذي لاقى نجاحاً ويعود السبب
في ذلك إلى ما كانت تتمتع به إنكلترا من تفوق في التجارة البحرية نجم عن ذلك ظهور
هيئة لويدر لندن –Liodys of London- الذي يعد افضل مركز للتأمين البحري حتى
يومنا هذا([5]).
أما بخصوص أنواع التأمين البري ، فقد تأخر
ظهورها قياساً للتأمين البحري ، على الرغم من ان التأمين على الحياة ترجع جذوره
التاريخية إلى حضارة وادي النيل ، حيث دلت الآثار على أن المصريين كانوا يشكلون
هيئات لتحنيط الموتى ودفنهم وبناء مقابر لهم مقابل أقساط يتولون تسديدها لهذه
الهيئات أثناء حياتهم([6])،
بيد أن هذا التأمين بمفهومه المعاصر عرف في إنكلترا في القرن الرابع عشر ملازماً
مع التأمين البحري ، إذ كان يغطي الأخطار البحرية والناتجة عن اسر البحارة من جانب
القراصنة ، حيث تتعهد شركات بتسديد الفدية للقراصنة لإطلاق سراح البحارة ، ثم ما
لبث تدريجياً أن ابتعد التأمين على الحياة من حيث الأضرار التي يغطيها عن الأضرار
البحرية ، وبالنظر لتعلقه بحياة الإنسان اتخذ صفة المراهنة على حياة الشخص الأمر
الذي جعل تقدم وانتشار هذا التأمين من حيث فنونه وأساليبه بطيئاً([7])
. والواقع ان أول نوع من أنواع التأمين البري الذي ظهر إلى حيز الوجود وأملته
دوافع عملية كان التأمين من الحريق ، ففي عام 1666 شب حريق هائل في لندن مخلفاً
أضراراً جسيمة دفعت الناس إلى ان يتدبرون طريقة تمكنهم من حماية أموالهم
وممتلكاتهم مما ساعد على ظهور شركات تأمين تمارس أعمال التأمين من الحريق لغرض
تغطية الأضرار التي تلحق بالمنقولات الناشئة عن الحريق ، ومن إنكلترا انطلقت فكرة
التأمين ضد الحريق إلى العديد من البلدان ، إذ نشأت في فرنسا أول شركة تأمين من
أخطار الحريق وان كانت بسبب العوامل الطبيعية كالصواعق ، ثم ما لبثت ان انتشرت هذه
الشركات في الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث تأسست أول شركة تأمين من أضرار
الحريق عام 1752([8]).
لقد عرف العرب القدماء نوعاً آخر من
التأمين يدعى بالتأمين التبادلي أو التعاوني ، إذ كانوا يؤمنون على الممتلكات
بقيود مختلفة ، حيث كان المساهمون في القافلة التجارية يتفقون على أن من ينفق
بعيره من خلال الرحلة يعوض من حصيلة أرباح التجارة الناجمة عن الرحلة وتتحدد حصة
كل عضو على ضوء ما يتحقق له من أرباح أو بحسب رأسمال المساهم في الرحلة([9]).
لم يقف التأمين في حدود عند نشاط معين ،
إذ ان ما لبثت الثورة الصناعية ان ساعدت على انتشاره وامتداده في كل أوجه الحياة ،
فظهرت أنواع أخرى من التأمين جاءت استجابة للتغيرات الاقتصادية والتطورات التي جاء
بها التقدم العلمي وما ينجم عنه زيادة في استخدام الآلات وتنوعها وتعقيدها بقدوم
عصر المركبات والتوسع في خطوط السكك الحديدية واختراع الطائرات كل ذلك أدى إلى
توسع عمليات التأمين وتنوعها وزيادة أهميته في مطلع القرن الماضي ، ويعد تأمين من
المسؤولية الناشئة عن حوادث المركبات وتأمين المسؤولية لأرباب المهن الحرة
كالأطباء والصيادلة والمحامون والمهندسون .. الخ الناشئة عن أخطائهم المهنية ،
وتنبع أهمية التأمين من المسؤولية في غايته المتمثلة في حماية المتضرر عما يلحقه
من أضرار من جراء نهوض المسؤولية المدنية للمهني ، لذا شرعت العديد من الدول بجعل
هذا النوع من التأمين إلزامياً.
وتعدّ فرنسا في مقدمة الدول التي اضطلعت
في إلزامية التأمين من المسؤولية ، اذ ألزمت المهنيين بالتأمين من مسؤوليتهم المدنية
وإلاّ تعرض المخالف للجزاء العقابي ، وكذلك تعد الجزائر في مقدمة الدول العربية –على
قدر علمي- الذي افرد المشرع باباً خاصاً ضمن الأمر المرقم 95-7 في 25 يناير 1995
للتأمين من المسؤولية إلزاميا ([10]).
يرجع التأمين في العراق إلى عقد الخمسينات
في القرن الماضي عندما ظهرت الحاجة إلى ضرورة وجود شركات تأمين عراقية قوية
لمنافسة الشركات الأجنبية ووكالاتها وفروعها العاملة في العراق ، إذ قبل هذا
التاريخ لم تكن في سوق التأمين أية شركة عراقية صرفة بهذا المجال ، بل كانت جميع
شركات التأمين أجنبية ، إذ كانت أعمال التأمين في العراق محصورة بين فروع ووكالات
الشركات الإنكليزية والفرنسية والأسترالية والهندية([11])،
ونتيجة لذلك تأسست شركة التأمين الوطنية بموجب القانون رقم 56 لسنة 1950 الذي عدل
بالقانون رقم 92 لسنة 1960 ثم تلاه القانون رقم 21 لسنة 1960 الذي بموجبه تم تأسيس
شركة إعادة التأمين العراقي ثم تلتها تأسيس شركة التأمين العراقية ، وكانت هذه
الشركات تعمل جنباً إلى جنب مع فروع الشركات الأجنبية . إلاّ أن بصدور القانون رقم
99 لسنة 1964 تم تأميم شركات التأمين الأجنبية أو الفروع الأجنبية التي تمارس
أعمال التأمين في العراق ، فأصبحت شركات التأمين مملوكة للدولة حتى بعد صدور قانون
الشركات رقم 21 لسنة 1997 الذي أعطى الحق للشركات المساهمة الخاصة ان تمارس اعمال
التأمين إلى جانب الشركات العامة.
قد يبدو للوهلة الاولى من السهل إدراك ماهية
التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ، بيد ان هذا الاعتقاد سرعان ما يتبدد
امام اعطاء تعريفاً كاملاً له يشمل الجوانب القانونية والاقتصادية والتجارية
والاجتماعية ، فمن الناحية القانونية يعد التأمين عقداً يتعهد المؤمن بتحمل تبعه
الأخطار لقاء مبالغ من المال يسددها لشخص آخر تعرض لخسارة معينة، فهو ضمان لمواجهة
الأخطار ([12]).
أما من الناحية الاقتصادية ، فيعّد
التأمين نظاماً اقتصادياً لتقليل او لتخفيف الأضرار بالتمويل أو المشاركة في
الاحتمال ، أي تقليل وتجميع الخسائر ، فاذا نظرنا إلى التأمين كهيئة أو مؤسسة
تجارية فيعد جزءاً مهماً في عالم المال ، اذ انه وسيلة ائتمان وادخار واستثمار ،
حيث يشتمل على هيئات تضم أعداد كبيرة من العاملين فيها ، ومن ثم يعد جزءاً مهماً
من مشاريع الاقتصاد الحر([13])،
أما من الناحية الاجتماعية ، فيكون التأمين أداة من خلاله يشترك المجموع في تعويض
المتضرر تطبيقاً لمبدأ المشاركة الجماعية في منع الضرر ([14]).
ولما
كان التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء يعد صورة من صور التأمين من المسؤولية
، وبالتالي يعدّ الأخير نوعاً من أنواع التأمين ، وهو يخضع إلى ذات القواعد
والخصائص التي يتميز بها أي عقد ، فضلاً عن ما يتسم به العقد بالسمات نفسها التي
ينفرد بها عقد التأمين في المجالات الأخرى من حيث آلية إبرامه ، وفي ضوء ما تقدم
يتضمن الفصل محل الدراسة مبحثين يكرس الأول لمفهوم التأمين من المسؤولية في
مقاولات البناء ، ويكرس الثاني لبحث آلية إبرام العقد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق