تُعدّ
مسألة تعريف العقد الطبي وتحديد ماهيته وتمييزه مما يشتبه به من عقود، وبيان
خصائصه مسألة في غاية الأهمية خصوصاً أن الكثير من المهتمين بدراسة هذا النوع من
العقد لم يوردوا تعريفاً ملائماً له، إذ اكتفوا بتعريف العمل الطبي وحده على
اعتبار أن العقد الطبي عقد يبرم بين الطبيب والمريض وهي مسألة بدهية، كما أن
الكثير من الفقهاء قد خلط بين العقد الطبي وغيره من العقود، فهناك من يرى أن العقد
الطبي هو عقد عمل أو إجارة خدمات.
وذهب
آخرون إلى أنه عقد مقاولة، صحيح أن العقد الطبي قد يلتبس في بعض جوانبه مع هذه
العقود إلا أن هذا لايعني التطابق بينهما، كما حرصنا ضمن إطار هذا المبحث على
تمييز العقد الطبي من عقد الاستشفاء لأنهما يشتركان في الغاية إلا أنهما مختلفان
في عدة وجوه، فضلاً عن تمييزه عن عقد الاذعان وعقد الوكالة وصولاً إلى المحطة
الأخيرة من هذا المبحث التي تناولت الخصائص التي يختص بها العقد الطبي.
في
ضوء ما تقدم فان هذا المبحث ينقسم إلى ثلاثة مطالب نتناول في الأول: تعريف العقد
الطبي، وفي الثاني: تمييز العقد الطبي مما يشتبه به من عقود، أما المطلب الثالث:
فانه يتناول خصائص العقد الطبي.
المطلب
الأول
تعريف العقد
الطبـي
تكمن
خصوصية العقد الطبي من غيره من العقود بأن محله هو جسم الإنسان ولما لهذا الجسد من
حرمة ومعصومية، فلا يجوز المساس به إلا لضرورة العلاج أو الحاجة إليه لأن الحق في
الحياة، والحق في السلامة الجسدية هما من الحقوق التي يجتمع فيها حق الله تعالى
وحق العبد، فضلاً عن هذا فان العلاقة التي تنشأ بين الطبيب والمريض هي علاقة غير
متكافئة، فالطبيب مهني على درجة عالية من المعرفة والتخصص الفني والمريض شخص
يجهل
ما يتعلق بالمرض()،
أو بفن العلاج ومما يزيد من حدة عدم التكافؤ هو أن أحد
طرفي
العقد وهو المريض يعاني من علة جسدية أو نفسية أو عقلية يلجأ إلى الطبيب بحثاً عن
العلاج.
كما
أن العلاقة بين الطبيب والمريض تقوم على الثقة، وليس من مقتضى هذه الثقة أن يوقع
المريض لطبيبه على بياض ليفعل به ما يشاء، إنما هي ثقة متبادلة تفرض المصارحة
والتعاون المثمر بين طرفي العقد فمتى شعر المريض بأن الطبيب يخفي عنه شيئاً أو
يتعمد أن يكذب عليه فقد الثقة به، ويُّولد هذا في نفس المريض شعوراً باليأس
والإحباط أو يدفعه ذلك إلى تغيير طبيبه والانتقال إلى طبيب آخر غيره يكشف له عن
حقيقة علته.
إذاً
للعقد الطبي طرفان المريض (أو مَنْ ينوب عنه) والطبيب، ويرد هذا العقد على جسم
الإنسان ويقوم على الثقة بين طرفيه غير المتكافئين وأن غالبية التشريعات الخاصة
محل المقارنة لم تضع تعريفاً للعقد الطبي وحتى غالبية الفقهاء المختصين بهذا
الجانب لم يضعوا تعريفاً للعقد محل البحث، وإنما سلطوا الضوء على تعريف العمل
الطبي عموماً، وسوف نستعرض ذلك في هذا المطلب كي نصل من خلاله إلى وضع تعريف ملائم
للعقد الطبي.
فقد
عرف جانب من الفقه()
العمل الطبي بأنه:
"العمل
وفق العلم المختص بأحوال بدن الإنسان ونفسه لحفظ حاصل الصحة واسترداد زائلها".
في
حين عرفه جانب آخر من الفقهاء()
بأنه:
"كل
نشاط يرد على جسم الإنسان أو نفسه ويتفق في طبيعته وكيفيته مع الأصول العلمية
والقواعد المتعارف عليها نظرياً وعلمياً في علم الطب ويقوم به طبيب مصرح له
قانوناً به يقصد الكشف عن المرض وتشخيصه وعلاجه لتحقيق الشفاء أو تخفيف آلام المرض
والحد منها أو منع المرض أو بهدف المحافظة على صحة الأفراد أو تحقيق مصلحة
اجتماعية شريطة توافر رضاء من يجري عليه هذا العمل".
فعلى
الرغم من وجاهة التعاريف السابقة إلا أنها تبقى محل نظر وذلك لأن التعريف الأول
جاء مقتضباً دون توضيح، أما التعريف الثاني فمع وجاهته لما أشار إليه من تفاصيل في
ضرورة ملاءمة العمل الطبي للأصول العلمية النظرية والعملية وتحديده لمراحل العمل
الطبي فحصاً وتشخيصاً وعلاجاً من أجل تحقيق الغاية المرجوة وهي شفاء المريض أو
التخفيف من حدة الألم أو منع الإصابة بالأمراض أو المحافظة على صحة المجتمع بأسره،
وهذا كله يجب أن يكون مقروناً برضاء من يجري عليه العمل الطبي، إلا أنه يبقى محل
نظر لأنه جاء بصيغة الشرح للتعريف وليس تعريفاً، كما أن الغاية من العمل الطبي
تعدّ أمراً بدهياً ولانجد ضرورة للإشارة اليها.
وبناءً
على ما تقدم، ومن أجل إعطاء تعريف ملائم للعمل الطبي لابد من الأخذ بنظر الاعتبار
العناصر الآتية فيه:
1. تحديد طبيعة النشاط أو العمل الطبي
بأنه يرد على جسم الإنسان أو نفسه.
2. موافقة العمل الطبي لأصول مهنة الطب،
وهذا أمرٌ لابد منه لأن مخالفة العمل لأصول مهنة الطب تخرجه عن أن يكون عملاً
طبياً.
3. تحديد المراحل التي قد يمر بها العمل
الطبي بالفحص أو التشخيص أو العلاج وهذا لايعني أن العمل الطبي لايتم إلاّ بهذه
المراحل مجتمعة فقد يكون العمل الطبي فحصاً أو تشخيصاً أو علاجاً وهكذا.
4. اشتراط رضاء المريض أو من ينوب عنه
بالعمل الطبي، وهذا هو أهم عنصر من
عناصر
العمل الطبي لأنه لايمكن ممارسة أي عمل طبي على المريض إلا برضاه
أو
برضا منْ ينوب عنه لأن الرضاء شرط من شروط ممارسة العمل الطبي وأساس من أسس
مشروعيته، وانتفاؤه يقيم المسؤولية على الطبيب كأصل عام.
فمن
خلال مراعاة هذه العناصر يمكننا تعريف العمل الطبي بأنه:
كل عمل يرد على جسم
الإنسان أو نفسه برضاه المستنير أو برضاء من ينوب عنه وفقاً للأصول العلمية
والقواعد المتعارف عليها بقصد الكشف عن المرض أو تشخيصه
أو علاجه.
وبعد
أن حددنا ماهية العمل الطبي يمكننا أن نصل إلى تعريف ملائم للعقد الطبي بأنه:
عقد
بين الطبيب والمريض أو من ينوب عنه، محله جسم الإنسان يلتزم بمقتضاه الطبيب بفحص
المريض أو تشخيص علته أو علاجه بعد الحصول على رضاه الحر المستنير بمقابل أو دون
مقابل وفقاً للأصول العلمية والمهنية.
إن
التعريف المقترح جاء بصيغة ملائمة وذلك للأسباب الآتية:
1. أنه حدد طرفي العقد الطبي بالأطباء
المخولين قانوناً حصراً وبالمرضى.
2. أنه أدرج العقد الطبي ضمن العقود
التي تقوم على الاعتبار الشخصي، فأضفى عليه خصوصية تميزه من غيره من العقود،
بايراده على جسم الإنسان ولما لهذا الجسد من معصومية أقرتها الأديان السماوية
والقوانين الوضعية.
3. حدد طبيعة التزام الطبيب، لأن الأصل
في التزامه بموجب العقد الطبي هو ببذل عناية واستثناءً يكون بتحقيق غاية.
4. كما أشار إلى أطراف العقد الطبي الذي
يجري في الغالب بين الطبيب والمريض، لكن في الأحوال التي يكون فيها المريض صغيراً،
أو فاقداً لوعيه، أو مصاباً بعاهة تمنعه من التعبير عن إرادته، ففي هذه الفروض
يبرم العقد بين الطبيب ومَنْ ينوب عن المريض كالولي أو الوصي أو الأقارب أو
الأشخاص المقربين منه.
5. فرضَ التزاماً ضرورياً على عاتق
الطبيب وهو الحصول على رضا المريض أو رضا مَنْ ينوب عنه رضاءاً حراً مستنيراً، هذا
الرضا الذي هو بمثابة نزول المريض عن الحصانة التي يقررها القانون لسلامته فبموجبه
تنتفي عن العمل الطبي صفة الاعتداء على حق يحميه القانون فيغدو بذلك فعلاً مباحاً.
6. مقابل التزامات الطبيب نحو مريضه،
يفرض العقد الطبي التزامات أخرى على المريض نحو طبيبه وإحدى هذه الالتزامات هو
المقابل الذي يحصل عليه الطبيب من مريضه، إلا أن هذا ليس مطلقاً فقد يقوم الطبيب
بتنفيذ التزاماته نحو المريض دون مقابل().
المطلب
الثاني
تمييز العقد
الطبـي مما يشتبه به من عقود
على
الرغم من الخصوصية التي يتميز بها العقد الطبي من غيره من العقود، قد يلتبس في بعض
جوانبه مع بعض العقود كعقد العمل، وعقد المقاولة، وعقد الاستشفاء وعقد الاذعان
وعقد الوكالة.
ومن
اجل ابراز خصوصية العقد محل البحث ارتأينا في هذا المطلب تمييزه من هذه العقود
للوصول إلى تكييفه وطبيعته وذلك في فروع
خمسة، مخصصين الفرع الأول لتمييز العقد الطبي من عقد العمل، والثاني لتمييزه من
عقد المقاولة، أما الفرع الثالث فسوف نتناول فيه تمييزه من عقد الاستشفاء وخصص
الفرع الرابع لتمييز العقد الطبي من عقد الإذعان بينما تم تخصيص الفرع
الخامس لتمييز العقد الطبي من
عقد الوكالة.
الفرع
الأول
تمييز
العقد الطبي من عقد العمل
ذهب
جانبٌ من الفقهاء الفرنسيين()
إلى اعتبار العقد الطبي عقد عمل، أو عقد اجارة خدمات، معززين رأيهم هذا، بأن عقد
العمل يقوم على أساس تقديم الخدمات للعاملين تجاه رب العمل مقابل أجر كما هو الحال
بالنسبة إلى الأطباء الذين يقومون بتقديم خدماتهم الطبية للمرضى مقابل أجر أيضاً،
كما استندوا في اتجاههم هذا إلى قانون مقترح ذي الرقم (1357) بخصوص وضع الأطباء
وعلاقتهم بالمرضى والذي طُرِح أمام الجمعية الوطنية ومقتضاه هو إضافة مادة في
قانون العمل برقم (764/ف6)() تنص على الآتي:
"وإن
كان الطبيب يمارس وظائفه الطبية باستقلالية تامة في علاقته بالمؤسسة التي يعمل
فيها، إلا أن هذا لا ينطبق مقابل المبدأ الذي يؤكده القضاء ألا وهو مطابقته لعقد
العمل ذاته".
فهذا
النص أكد على استقلالية الطبيب في ممارسته لمهنته عن المؤسسة التي يعمل فيها، إذ
يبقى الطبيب حراً في اختيار العلاجات التي يراها متناسبة مع حالة المرضى العاملين
في هذه المؤسسة دون رقابة تفرض عليه من قبلها، لكن يؤخذ عليه مسألة استناده لمبدأ
أقره القضاء يقضي بمطابقة العقد الطبي لعقد العمل لأنه قد يتطابق العقدان من حيث
علاقة الطبيب الإدارية بالمؤسسة لا من حيث علاقة الطبيب بالمريض لأن الطبيب يلتزم
تجاه المؤسسة بالقدوم والانصراف على سبيل المثال في أوقات معينة.
لذلك
لا يمكن التعويل على هذا الاتجاه لتحديد طبيعة العقد الطبي، فصحيح أن العقد الطبي
يقترب من عقد العمل في بعض الوجوه، لكن مقابل ذلك هناك بعض الجوانب التي يفترق بها
عنه.
ومن
أجل التوصل إلى مدى صحة هذا الاتجاه لابد من أن نحدد المسائل التي يقترب فيها عقد
العمل من العقد الطبي، وابتداءً نقول أنها لا تكفي للتطابق ما بين العقدين، ومن ثم
نتطرق إلى المسائل التي يفترق فيها وذلك في نقطتين:
أولاً.
أوجه الشبه بين عقد العمل والعقد الطبي:
1. من اوجه الشبه التي دعت الفقه
الفرنسي إلى اعتبار العقد الطبي عقد عمل هو تعريفهم للأخير باعتباره عقداً يتعهد
به أحد طرفيه بان يخصص عمله لخدمة الطرف الأخر، فمن هذا المنطلق يتضح مدى التقارب
بين العقدين، فكما يلتزم العامل أو يتعهد بتخصيص عمله لخدمة رب العمل، يلتزم
الطبيب بأن يخصص عمله الطبي لخدمة الطرف
الآخر في العقد الطبي وهو المريض().
2. كلا العقدين يعتبران من العقود
الرضائية الملزمة للجانبين التي تفرض التزامات متقابلة على طرفيها().
3. كما أن كلا العقدين يعدان من عقود
المعاوضة، فكما يلتزم المريض تجاه طبيبه بالأجر يلتزم رب العمل بالأجر تجاه عماله.
4. كما نعلم أن العقد الطبي يفرض على
الطبيب التزاماً بحفظ أسرار مرضاه، فالأمر كذلك في عقد العمل، إذ يفرض هذا العقد
على العامل التزاماً بحفظ أسرار رب العمل الصناعية والتجارية حتى بعد انقضاء
العقد.
ولكن
أوجه الشبه المذكورة آنفاً لا تقتصر على عقد العمل وحده، فأغلبية العقود هي
من عقود المعاوضة الملزمة للجانبين.
وعلى
الرغم من ذلك، نجد العقد الطبي يختلف عن عقد العمل من عدة وجوه.
ثانياً.
أوجه الاختلاف بين عقد العمل والعقد الطبي:
يختلف
العقد الطبي عن عقد العمل من حيث:
1. أن للمدة اعتباراً
في عقد العمل ولها أحكاماً خاصة بذلك، في حين لم نجد من هذا القبيل في العقد الطبي
إذ لم يكن للمدة أي اعتبار يذكر، وبمعنى آخر لا يمكن للمريض
أن
يشترط على طبيبه فترة زمنية يحددها بنفسه لإجراء عملية جراحية على سبيل
المثال.
2. في الواقع العملي لمهنة الطب، إذا
اكتشف الطبيب من خلال علاقته بمرضاه
عقاراً
أو اختراعاً معيناً فان ذلك لايمنحه براءة اختراع لأن المادة (3/ ف2)
من قانون براءة الاختراع والنماذج الصناعية العراقي نصت على ما يأتي:
"لا تمنح البراءة في الحالات الآتية:
1. .................
2. التركيبات الصناعية والصيدلانية.
3...........
4. ..........".
في حين لو أن
العامل في علاقته برب العمل وفق في اختراع ما، فان ذلك يمنحه حق تسجيل الاختراع
باسمه أو باسم رب العمل، هذا في الأحوال التي يخصص فيها مقابل أجر للاختراع، أما
إذا لم يخصص في مقابل الاختراع أجراً فللمخترع (العامل) الحق بطلب التعويض العادل
من رب العمل().
3. أن شخصية الطبيب في العقد الطبي تعد
محل اعتبار، فان وفاته تؤدي إلى انقضاء العقد وبالمقارنة مع عقد العمل فان هذا
العقد لا ينقضي بوفاة رب العمل إلا إذا كانت شخصيته قد روعيت في العقد ولكنه ينفسخ
بموت العامل.
4. من حيث علاقة التبعية: ففي عقد العمل
توجد علاقة تبعية بين العامل ورب العمل، لكن في العقد الطبي التبعية قد توجد بين
الطبيب ومن يعمل بمعيته كالمخدر أو الممرض، ولا مجال للقول بوجود علاقة تبعية بين
الطبيب والمريض، لأن المريض لا يقابل العامل، وينبغي للطبيب أن يتمتع بحرية تامة
لتطبيق أصول مهنته وفنه().
فالتبعية
إذاً نسبية لأن مهنة الطب أخذت تتطور وتتقدم مع تقدم وتطور الحياة العصرية، فأخذت
تظهر بأشكال وأوضاع جديدة، إذ أنها لم تبق كما كانت أول ظهورها فردية، بل إن أصحاب
المعامل، والشركات، وحتى المستشفيات العامة، والخاصة أخذوا يتفقون مع الأطباء
لتطبيب مَنْ يمرض أو مَنْ يصاب من عمالهم، فالعقد الطبي أخذ
يتأثر
بمثل هذه العقود مما أدى إلى ظهور نوع من علاقة التبعية إلا أنها نسبية لا مطلقة،
حيث تظهر علاقة التبعية بين الطبيب والمنشأة التي يعمل لديها، فالطبيب المتعاقد مع
هذه الجهات يعد ملزماً تجاه المستشفى أو الشركة أو المعمل بأن يَقْدِم على صورة
معينة، وفي أوقات خاصة، إذ أن التبعية في هذا الفرض هي تبعية إدارية أو تنظيمية
ولا تعد من قبيل التبعية الفنية، إذ يبقى الطبيب حراً في اختيار العلاج المناسب
دون رقابة عليه من هذه المؤسسات، كما تظهر علاقة التبعية في الفرض الذي يتعاقد فيه
أحد الأشخاص مع طبيب معين على أن يقيم معه في منزله لمتابعة حالته الصحية،
فالتبعية هنا تتحقق بتحديد مكان إقامة الطبيب والساعات التي يقدم فيها خدماته
الطبية، إلا أنها تبقى نسبية حيث لا تتحقق بشأن الناحية الفنية للعلاج، إذ يبقى
الطبيب حراً في تقديم العلاجات التي تناسب حالة المريض الصحية.
ولكن
تجدر الإشارة إلى إحدى الحالات التي تتحقق فيها التبعية الفنية والتنظيمية في آن
واحد وهذا بيّن من حالة الطبيب المتخرج حديثاً الذي يعمل في عيادة أو مستشفى طبيب
قديم، إذ يعمل تحت إشرافه ورقابته فيشرف الطبيب القديم على الطبيب حديث التخرج
إشرافاً فنياً فيوجهه في أصول ودقائق مهنة الطب ويراقب كيفية تنفيذه للأعمال
المطلوبة منه، فضلاً عن أوقات قدومه وانصرافه().
5. وما يميز العقد الطبي عن عقد العمل
هو أن الأخير من العقود المسماة التي نظمها
المشرع
بنصوص قانونية، وأحكام ثابتة، في حين أن العقد الطبي لم يرد ضمن العقود المسماة.
وبناءً
على ذلك نستبعد هذا الاتجاه، وان أيده الفقه الفرنسي، إذ لايمكننا التعويل
عليه،
لأنه أعطى حكماً في طبيعة العقد الطبي معتمداً فيه على نص مقترح غير مقنن،
وعلى
نزرٍ قليل من القرارات التي أصدرتها المحاكم الفرنسية، فان مثل هذه
القرارات
بالإمكان اعتبارها بمثابة الاستثناء علماً أن الاستثناء لايقاس عليه ولا يتوسع
فيه،
باحثين عن معيار آخر لنصل من خلاله إلى تحديد طبيعة العقد
الطبي.
الفرع
الثاني
تمييز
العقد الطبي من عقد المقاولة
ذهب
قسم آخر من الفقهاء()
إلى أن العقد الطبي هو عقد مقاولة في أغلب الأحوال، على اعتبار أن هذا العقد
يقوم على أساس الاتفاق بين الطبيب والمريض الذي بموجبه يقوم الأول بعلاج الثاني
وتقديم خدماته إليه مقابل أجر معلوم، وتقديم الخدمات أو العلاج عمل مادي، ولكن
لاينفي ماديته هذه من أن يكون عملاً عقلياً.
إلا أن أغلب الأحوال هذه، لا يمكن تعميمها
ودليلنا في ذلك هو عدم التطابق بين العقدين وإن اقتربا في بعض الوجوه.
وفي
ضوء ذلك سوف نتناول أوجه الشبه والاختلاف بين العقد الطبي وعقد المقاولة وذلك في
نقطتين:
أولاً.
أوجه الشبه بين عقد المقاولة والعقد الطبي:
يقترب
عقد المقاولة من العقد الطبي في الأمور الآتية:
1. إن كلا العقدين يعد من حيث الأصل من
العقود الرضائية التي لا تتطلب شكلاً معيناً إلا في الحالات التي تتفق فيها
الأطراف على شكلية معينة.
2. كما أن كلا العقدين يُعَّدْ من
العقود الملزمة للجانبين التي تفرض التزامات متقابلة على طرفيها (المقاول ورب
العمل في عقد المقاولة) و (المريض والطبيب في العقد الطبي) وعليه إذا لم يقم أحد
الطرفين بتنفيذ التزامه، جاز للطرف الآخر فسخ العقد مع التعويض وفقاً للقواعد
العامة.
3. كما يقترب العقد الطبي من حيث الأصل
من عقد المقاولة بأنهما من عقود المعاوضة، إذ يلتزم المريض بالأجر، تجاه قيام
الطبيب بعمله، كما يلتزم رب العمل بالأجرة تجاه المقاول.
4. ويقترب العقد الطبي من عقد المقاولة،
في أنَّ كلاً من المريض ورب العمل في الغالب هم من عامة الناس وعديمي الخبرة
مقارنة بالطبيب والمقاول، مما يفرض على الطبيب والمقاول التزاماً بتبصيرهم تبصيراً
كافياً من أجل أن تتوازن كفتا العقد.
وعلى
الرغم من ذلك، فان أوجه الشبه هذه وحدها لاتكفي للقول بأن العقد الطبي هو عقد مقاولة؛
فغالبية العقود المدنية تشترك مع بعضها بهذه النقاط، هذا ما يدعونا إلى عدم
التطابق بين العقد الطبي، وعقد المقاولة فان اشتركا في بعض النقاط فانهما يفترقان
في بعضها الآخر.
ثانياً.
أوجه الاختلاف بين عقد المقاولة والعقد الطبي:
يختلف
العقد الطبي عن عقد المقاولة في الجوانب الآتية:
1. كما نعلم أن الأصل في التزام الطبيب
في العقد الطبي هو التزام بوسيلة، وهذا على
خلاف
التزام المقاول في عقد المقاولة، لأن رب العمل يطلب عملاً يتحتم إنتاجه
وما
على المقاول إلا أن يختار الوسائل المختلفة التي تؤدي في النهاية إلى الوصول إلى
النتيجة المرجوة().
2. ويختلف عقد المقاولة عن العقد الطبي
من حيث أن التزام الطبيب يرد على جسم الإنسان، في حين أن التزام المقاول يرد في
الغالب على أشياء جامدة غير حية.
3. كما أن شخصية الطبيب في العقد الطبي
تعدّ محل اعتبار، فاذا مات ينقضي العقد، في حين أن الأصل في عقد المقاولة أن شخصية
المقاول ليست محل اعتبار، وعليه لا ينقضي العقد بموت المقاول إلا إذا كانت مؤهلاته
الشخصية محل اعتبار، كما أن الطبيب لا يستطيع أن يوكل علاج المريض لطبيب آخر، في
حين أن المقاول يستطيع ذلك من خلال المقاولة من الباطن إلا إذا اتفق على خلاف ذلك().
4. في عقد المقاولة العادي يستطيع رب
العمل أن يطلب انجاز العمل على نفقة المقاول، وهذا ما لا يستطيعه المريض في العقد
الطبي، لأن إرادة المريض حرة في اختيار طبيبه، إلا أن له حق الرجوع على الطبيب
الأول بالتعويض.
5. ويختلف عقد المقاولة عن العقد الطبي
من حيث، أن الأخير غير لازم لا من جهة الطبيب ولا من جهة المريض، فيستطيع المريض
أن يرجع عنه ولا يجبر على أن يبقى تحت علاج طبيب لا يريده أو أصبح لايثق به، كما
يستطيع الطبيب أن يرجع في العقد
ولا
يمكن إكراهه، وما هذا إلا تطبيقاً لمبدأ حرية الطبيب في اختيار مرضاه مقابل حرية
المريض في اختيار طبيبه.
على
الرغم من كل هذا، ومع قناعتنا بأن مهنة الطب لا تتفق مع عقد المقاولة فإن هناك بعض
الحالات التي قد يقترب فيها العقد الطبي من عقد المقاولة، كما هو الحال بالنسبة
إلى الأعمال المختبرية، أو ما يسمى بالتحاليل الطبية، أو التزام مصرف الدم، ونقله،
ونقل الأمصال، والتركيبات الصناعية كطقم الأسنان، والأطراف الصناعية، لأن طبيب
الأسنان عندما يتعاقد على عمل أسنان صناعية، أو طبيب الكسور عندما يتعاقد على عمل
أطراف صناعية مثلاً، فانهما يسخران الوسائل التقنية في مثل هذه الفروض من أجل
تحقيق نتيجة معينة بالذات وعلى شكل مقاولة.
إلا
أن هذه الحالات لايمكن تعميمها، لأن النصوص القانونية التي نظمت عقد المقاولة
لايمكن أن تنطبق على العقد الطبي، لأن فحواها يتعلق عادةً بتسليم العمل أو يتعلق
بمسألة العيب في العمل أو المادة().
وهذا
بدوره يقودنا إلى القول بعدم التطابق بين العقد الطبي، وعقد المقاولة، بالرغم من
رفعة مقام الفقهاء الذين وصفوا العقد الطبي في أغلب الأحوال بأنه مقاولة إلا أن
هذا الاتجاه يبقى محل نظر، إذ لايمكن تعميمه.