السبت، 18 يناير 2014

التطور التاريخي للتجارة الإلكترونية

عرفت التجارة في العصور الماضية تطوراً هائلاً، فقد بدأ بنظام المقايضة ، ثم اقترنت بنظام البيع والشراء، وتنوعت أساليب تنفيذ عمليات التجارة في أطر قانونية تميزت باعتماد الوسائل والظواهر المادية أساسا لتنظيم التجارة وجوداً وتنفيذاً، وعلى وجه التحديد المستند الكتابي ، والتسليم المادي للأموال محل التعامل التجاري([1]).
وإذا كان التسليم المادي من مستلزمات التجارة فإنه في نفس الوقت مؤشرٌ على أن التعامل التجاري في الماضي ما كان ليتم إلا بالتسليم المادي بين المتعاقدين الحاضرين في إطار قانوني ، إلاّ أن المستند الكتابي له مزايا عديدة، خاصة في وسط يفصل بين المتعاملين فاصل مكاني ، فضلاً عن أثار أخرى تظهر أهميتها في زمن تالي لإبرام العقد([2]).
 ومع التطور الجديد لأسلوب التجارة في عصرنا الحاضر أصبحت هذه المزايا صعبة المنال ، فشاع التطور التقني في العالم وظهر ما يسمى بوسائل الاتصال الحديثة، إذ يشهد العالم الآن تطوراً هائلاً في عالم الاتصالات بشكل لم يكن معهوداً من قبل، حيث تعدّ وسائل الاتصال الحديثة من ابرز وسائل الاتصالات المعاصرة التي أصبح استخدامها يتزايد في معاملات الأفراد بشكل كبير، فالكثير من الصفقات الكبيرة تجري  عن طريق هذه الوسائل ، مثل جهاز التلكس وجهاز نقل الصورة بالهاتف (الفاكسيمل) وجهاز الكمبيوتر إلى أن وصل إلى الوسيلة المتطورة وهو الانترنيت.
وقد صار لهذا التطور التقني لعالم الحاسوبية أثر واضح في علاقات التجارة الدولية، وأصبح التنافس الحالي في العالم هو من أجل الوصول السريع إلى المعلومات واستخدام الطرق السريعة في التداول والتحليل من أجل اتخاذ قرار سليم مبني على الدقة وهكذا أصبح على الساحة العالمية ثورة جديدة تسمى ثورة تقنية المعلومات والاتصالات التي تسهم بقدر كبير في تكوين التيار الجارف لمفهوم العولمة والتي اتسعت لتشمل اقتصاديات العالم خلال العقدين السابقين، ومن المنتظر أن تستمر بالاتساع لتشمل كل قطاعات الحياة([3]).  
وقد أعطى التقدم التقني المحرز على مستوى المعلومات والاتصالات أبعاداً جديدة لبيئة الأعمال وأتاح للمتعاملين وسائل متطورة للإعلان عن السلع والخدمات ومن ثم التعاقد عبر شبكات الحواسيب الآلية للإعلان وتنفيذ التعاقدات أيضاً عبر النقل الآلي للبيانات المجسدة للأداءات ، محل الالتزام ، وهكذا فالتطور الحادث في مجال الاتصالات الإلكترونية يؤثر تأثيرا جذرياً في الطريقة التي تتم بها المعاملات التجارية أو الاقتصادية بصفة عامة .  
للراغبين بمساعدتهم في ابحاثهم الاتصتا بنا على الرقم 00967735802471
تتوفر خدمة الفايبر والواتس اب




([1])  د. فائق الشماع، التجارة الإلكترونية، دراسات قانونية، مجلة تصدر عن قسم الدراسات القانونية في بيت الحكمة ، السنة الثانية ، العدد الرابع ، كانون الأول ، بغداد ، …2 ، ص37 .
([2])  المصدر السابق نفسه، الصفحة نفسها، وللمزيد عن أهمية السند المكتوب راجع د.عباس العبودي ، التنظيم القانوني للسندات الإلكترونية المستخرجة عن طريق الانترنيت في الإثبات المدني، بحث مقدم إلى المؤتمر القطري لكليات القانون ، بغداد ، آذار ، 2000.
([3])   د. رأفت عبد العزيز غنيم ، دور جامعة الدول العربية في تنمية وتيسير التجارة الإلكترونية بين الدول العربية، ملحق أول، الأمانة العامة إدارة قطاعات الخدمات الأساسية، نوفمبر ، منشورات الجامعة العربية ، 2002 ص3-4 .

مفهوم مبدأ الفصل بين السلطات

 

إن مقتضى هذا المبدأ أن يستقل كل سلطة من سلطات الدولة في مباشرة الوظيفة التي أسندها إليها الدستور، ولا يجوز لأي منهما الاعتداء على وظيفة السلطات الأخرى أو تجاوز حدود اختصاصاتها([1]).ويمكن استخلاص معنيين أساسين لمبدأ الفصل بين السلطات أولهما: الاستقلال العضوي. ويقصد به أن يتمتع كل من سلطة من سلطات الدولة بالاستقلال الذاتي في مواجهة باقي السلطات. أي أن هذا المبدأ يقوم على أساس عدم التدخل في شؤون باقي السلطات.ثانيهما: التخصص الوظيفي: حيث يختص كل سلطة بممارسة اختصاصاتها بحيث تقتصر وظيفة السلطة التشريعية على سن القوانين، في حين تقتصر وظيفة السلطة التنفيذية بمهمة تنفيذ القوانين، أما السلطة القضائية تنفرد بمزاولة وظيفتها القضائية التي تتمثل بتطبيق القانون على المنازعات والخصومات التي ترفع إليها([2]).فنلاحظ أن مونتيسكيو قد أتخذ من التقسيم الثلاثي لوظائف الدولة أساساً لتوزيع السلطة بين هيئات مختلفة، أي أنه قد أقام هذا المبدأ على أساس فكرة وجود وظائف متميزة في الدولة([3]).وإن أساس فكرة المبدأ لدى مونتسكيو هو أنه إذا اجتمعت هذه السلطات بيد فرد واحد أو هيئة حاكمة واحدة، فأن ذلك سيكون مدعاة لإساءة استعمال السلطة أو الاستبداد بها، فعلى سبيل المثال إذا اجتمعت وظيفتا التشريع والتنفيذ بيد واحدة، فالنتيجة المترتبة على ذلك هي فقدان التشريع لصفة العمومية والتجديد. أي فقدانه ضمانة وضعه قواعد عامة مجردة تطبق على الحالات المستقبلية، لأنه يمكن أن تقوم السلطة التشريعية بسن القوانين لتطبق على حالات خاصة وتحقيقاً لمأرب شخصية([4]) ويؤدي في الوقت ذاته إلى أن تجتمع صفتي المشرع والمنفذ في الشخص نفسه. بحيث يكون الذي قد سن القانون هو نفسه الذي قام بتنفيذه.وتكون الحالة نفسها عند اجتماع وظيفتي التشريع والقضاء بيد واحدة. حيث ستتحقق النتيجة الأولى نفسها وهي فقدان القانون لصفة العمومية التي يتميز بها لأنه يمكن للمشرع أن يسن قواعد قانونية تتفق مع الحل الذي يراد تطبيقه على الحالات الفردية التي تعرض أمام القضاء فيحابي من يشاء ويظلم من يشاء بحيث يصبح القضاء أداة لتنفيذ الأغراض والمآرب([5]). وتجدر الإشارة إلى أن الفصل الذي نادى به مونتيسكيو لم يقصد به الفصل التام أو الفصل العازل بين السلطات بحيث تكون كل سلطة في عزلة عن السلطة الأخرى، وإنما يهدف هذا المبدأ إلى إيجاد نوع من التوازن والتعاون بين هذه السلطات، حتى يمكنها هذا التعاون والتنسيق من تأدية وظائفها وتحقيق أهدافها، وهذا يقتضي في الوقت ذاته إيجاد الرقابة المتبادلة بين هذه السلطات، لضمان عدم تجاوز أية سلطة لحدود اختصاصاتها. ويضمن هذا التعاون حقوق الأفراد وحرياتهم([6]).وقد اختلفت الأنظمة السياسية في اعتناقها لمبدأ الفصل بين السلطات. إذ نجد أن بعضاً من هذه الأنظمة قد أخذت بالفصل المرن الذي يحقق التعاون والتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، والشاهد على ذلك الأنظمة البرلمانية، حيث تتخلى مظاهر التعاون بأن للسلطة التشريعية الحق في سؤال الحكومة واستجوابها وطرح الثقة بها بعد ثبوت مسؤولياتها السياسية. وبالمقابل يكون للسلطة التنفيذية حق الرقابة على تكوين السلطة التشريعية. وممارستها لأعمالها التشريعية وحق حل هذه السلطة إذا ما رأت أن هناك مبرراً لذلك. أما الأنظمة الأخرى فقد أخذت بأسلوب الفصل التام بين السلطات. وخير شاهد على ذلك الولايات المتحدة الأميركية التي اعتنقت هذا المبدأ في دستورها لعام 1787. ويفترض في هذا النوع من الفصل أن لا يكون هناك أي اتصال أو تعاون بين هذه السلطات.لأن هذه السلطات ستجد نفسها بطبيعة الحال مضطرة إلى قيام بالتعاون والتضامن فيما بينها. فمثلاً رئيس الدولة يتمتع بحق الاعتراض على القوانين ومخاطبة البرلمان برسائل شفوية، أما السلطة التشريعية فموافقتها ضرورية لنفاذ كثير من أعمال السلطة التنفيذية نحو تعيين كبار الموظفين. وإبرام بعض المعاهدات، والموافقة على الميزانية([7]). ونلاحظ أن في الأفكار التي طرحها مونتيسكيو في كتابة روح الشرائع تأثيراً كبيراً على الثورتين الفرنسية والأميركية، حيث أعلنت الثورة الفرنسية في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789: ((إن كل جماعة سياسية لا تضمن حقوق الأفراد ولا تفصل بين السلطات لا دستور لها)) وتأسيساً على ذلك قامت أول دساتير الثورة الفرنسية لعام 1791، ودستور الجمهورية الثالثة ودستور سنة 1748 بمبدأ الفصل بين السلطات في الدولة فضلاً عن أثره على الثورة الأميركية لعام 1777 الذي وضع على أثره الدستور الأميركي لعام 1787([8]).

([1]) د. فؤاد العطار مصدر سابق ص 181.
([2]) د. محمد كاظم المشهداني مصدر سابق ص 116.
([3]) د. محمود عاطف البنا النظم السياسية مصدر سابق ص 329.([4]) د. منير حميد البياتي الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي الطبعة ألأولى الدار العربية لطباعة بغداد 1979 ص 230.
([5]) عبد الغني بسيوني عبد الله النظم السياسية الدار الجامعية بلا مكان طبع 1985 ص 267.
([6]) د. السيد خليل هيكل مصدر سابق ص 187.
([7]) نعمان احمد الخطيب النصوص الدستورية أهم ضمانات حقوق الإنسان مقال منشور في مجلدات حقوق الإنسان المجلد الثالث دراسات تطبيقية عن العالم العربي دار العلم للملايين بيروت لبنان 1998 ص 183.
([8]) عبد الغني بسيوني مصدر سابق ص 265.


الإيجاب في العقود الإلكترونية

لم تورد معظم التشريعات الوطنية الخاصة تعريفاً محدداً للإيجاب في عقود التجارة الإلكترونية([1]) على الرغم من اعترافها بجواز التعبير عن الإيجاب بالرسائل الإلكترونية ، إلاّ أن هنالك تعريفات من قبل الفقه ، حيث يعرف الإيجاب بأنه (التعبير البات عن إرادة شخص يتجه به إلى شخص آخر يعرض عليه التعاقد بأسس وشروط معينة)([2]).
كما عرف الفقه الإنكليزي الإيجاب The offer  بأنه بيان لرغبة الشخص الذي أصدره في التعاقد على وفق الشروط المذكورة فيه([3]).
An offer is astatement that the person making it is willing to contract on the terms stated /4/
كما عرفه الاتحاد الأوربي بأنه (كل اتصال عن بعد يتضمن كل العناصر اللازمة بحيث يستطيع المرسل إليه أن يقبل التعاقد مباشرة ، ويستبعد من هذا النطاق مجرد الإعلان)([4]). فإذا كان الإيجاب قد وجه إلى شخص معين أو أشخاص معينين ترتب عليه الأثر ، والسبب هو تعيين الشخص المقصود بالإيجاب ، ولكن إذا تم توجيه الإعلان عن السلعة أو البضاعة إلى الناس كافة فهذا العرض لا يعدّ إيجاباً وإنما هو دعوة للتفاوض لأنه يقصد بعمله هذا التعريف والترويج لتلك البضاعة ، ولهذا تنص المادة (80/2) من القانون المدني العراقي على أن : "أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو بطلبات موجهة للجمهور أو للأفراد فلا يعتبر عند الشك إيجاباً ، وإنما يكون دعوة إلى التفاوض".
ويعتبر الإيجاب الإرادة الأولى([5]) التي تظهر في العقد ولذلك يمتاز بناحيتين هما:
1.    أن يكون باتاً ، أي أن يكون صادراً عن نية باتة في التعاقد .
2.    أن يكون متضمناً لجميع العناصر الأساسية للعقد المراد إبرامه بحيث يتم العقد بمجرد أن يقترن به قبول مطابق له([6]).
        كما أنه لا يشترط في الإيجاب الإلكتروني شكلاً معيناً ، إذ تنص المادة (12) فقرة (1) من القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية (الاونسترال) بأنه (في العلاقة بين منشئ رسالة البيانات والمرسل إليه ، لا يفقد التعبير عن الإرادة أو غيره من أوجه التعبير مفعوله القانوني أو صحته أو قابليته للتنفيذ لمجرد انه على شكل بيانات). ويسقط الإيجاب في حالتين :
الأولى : أن يرفض القابل هذا الإيجاب .
الثانية : أن تنقضي المدة التي يلزم خلالها الإيجاب .
        وقد يقوم الإيجاب دون أن يكون ملزماً كالإيجاب القائم الصادر في مجلس العقد، وهو يقابل الإيجاب غير محدد المدة بين غائبين ، في هذه الصورة لا يسقط الإيجاب إلاّ في ثلاث حالات ، هي :
1.     أن يعدل عنه الموجب قبل انفضاض المجلس .
2.     أن يصدر من أحد المتعاقدين في المجلس قول أو فعل يدل على الإعراض عنه([7]).
3.     أن ينفض المجلس دون أن يقترن الإيجاب بالقبول ولا عبره بالقبول بعد العدول أو الإعراض أو انفضاض المجلس .
أما عن بيانات الإيجاب في القوانين الأجنبية فنذكر منها القانون الإنكليزي والفرنسي .
إذا كان القانون الإنكليزي ، يتضمن قبل نفاذ تعليمات الاتحاد الأوربي المذكورة سابقاً ، تنظيماً قانونياً للإعلانات المتعلقة بالبيوع عن بعد([8]) يشترط في الإعلان أن يكون قانونياً ورقيقاً وقريباً وصادقاً ، كما يجب أن يتضمن الإعلان الاسم الكامل للمعلن وعنوانه والخصائص الأساسية للسلعة أو الخدمة ومقدار تكاليف النقل ورسم القيمة المضافة وبيان أي قيود أو شروط للعرض يمكن أن تؤثر في صحته والميعاد المتوقع للتسليم وبيان إمكانية رد السلعة وإذا تضمن الإعلان شرطاً يستلزم اتصال المستهلك شخصياً بالمعلن فيجب أن يظهر هذا الشرط بوضوح في الإعلان .
وقد سار تقنين الاستهلاك الفرنسي على نفس النهج الإنكليزي فهو يوجب على المورد (المعلن) إعلام المستهلك بالخصائص الأساسية للسلعة أو الخدمة محل التعامل وبالثمن والشروط العامة للبيع والتاريخ المحدد لتسليم السلعة أو تقديم الخدمة ، ولذلك فإن العرض الذي يتضمن أن الإيجاب يسري لحين نفاذ المخزون ، هذا العرض لا يستجيب للاشتراطات القانونية ما دام العرض على شبكة اتصال إلكترونية لا يقوم على دعائم مادية وبالتالي لا يمكن تحديد تاريخ بداية ونهاية هذا العرض على نحو دقيق([9]). إذ يجب على المعلن أن يبلغ المستهلك بمدة سريان العرض بطريقة واضحة .



([1])  منها القانون المدني العراقي والقانون المدني المصري رغم إيرادها الأحكام القانونية للإيجاب.
([2])  عبدالمجيد الحكيم ، عبدالباقي البكري ، محمد طه البشير ، الوجيز في نظرية الالتزام ، ج1، مصادر الالتزام ، دار الكتب للطباعة والنشر ، جامعة الموصل ، 1980 ، ص38 .
([3])  د. مجيد حميد العنبكي ، إنشاء العقد في القانون الإنكليزي ، مجلة جامعة صدام للحقوق ، العدد 3 ، 1999 ، ص70  .
)4) Treitel  the law of contract,3 edition 1970,p-7 .
([4])  وفقاً لتعليمات الاتحاد الأوربي المرقمة 7/1997 حيز النفاذ في أقاليم أعضائه في 4/6/2000 إذ جاء توجيها لحماية حقوق المستهلكين في العقود التي تبرم عن بعد . نقلاً عن : أسامة عبد الحسن مجاهد ، المصدر السابق ، ص 69.
([5])  تنص المادة (77) ف1 من القانون المدني العراقي على أن (الإيجاب والقبول كل لفظين مستعملين عرفا لإنشاء العقد وأي لفظ صدر أولاً فهو إيجاب والثاني قبول) وتعمد المشرع العراقي تأكيد على أن الإيجاب هو الإرادة التي يعلن عنها أولاً. كما أخذ القانون الأردني بنفس الاتجاه. المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الأردني ، ج1 ، ص98 ، نقلاً عن : د. حسن علي الذنون و د. محمد سعيد الرحو ، النظرية العامة للالتزام ، مصادر الالتزام ، ج1 ، ط1 ، دار وائل للطباعة والنشر ، عمان - الأردن ، 2002 ، ص63 .
([6])  محمد لبيب شنب ، مصادر الالتزام ، بيروت ، 1976 ، ص104 .
([7])  المادة (82) من القانون المدني العراقي ، والتي تنص على : "المتعاقدان بالخيار بعد الإيجاب إلى آخر المجلس . فلو رجع الموجب بعد الإيجاب وقبل القبول أو صدر من أحد المتعاقدين قول أو فعل يدل على الإعراض يبطل الإيجاب ولا عبره بالقبول الواقع بعد ذلك". 
([8])  تضمنه كل من تقنين الإعلانات وتقنين تنمية البيوع Sales Promotion طبقاً للطبعة السادسة لعام 1995 ، وعلى الرغم من أن التقنين الأول ليس له قوة القانون بالمعنى الدقيق إلاّ أن مخالفة الإعلان لقواعده يسمح باستصدار أمر من السلطات المختصة بمنعهم وهو ما يمكن انطباقه على الإنترنت ، رو ، مجلة محامي الأعمال الدولي ، 1998 ، ص 165 . 
(1) Heau, Inter net et le droit: Aspects Juridrique du commerce electronique, Ed, Exrolles, Paris,1998, P. 4.

السبت، 11 يناير 2014

ماهية العقد الإداري في القانون الخاص


     من المسلم به أن العقد الذي تبرمه الإدارة مع احد الأشخاص الطبيعية أو المعنوية لا يختلف في مفهومه العام عن العقد المدني الذي يبرمه الأفراد فيما بينهم حيث إن كلاً منهم يقوم على أساس توافق إرادتين بقصد القيام بالتزامات متقابلة.
     وبناءا على ذلك فان العقد الإداري يجب أن تتوافر فيه الأركان العامة المتمثلة بالرضا و المحل والسبب, بيد أن العقدين- الإداري والمدني- يختلفان من حيث النظام القانوني الذي يخضع له كل منهما ومرجع هذا الاختلاف أن الإدارة تبرم العقد باعتبارها سلطة عامة تتمتع بامتيازات لا تتوافر للمتعاقد معها وذلك بهدف تحقيق أهداف أو أغراض المرفق العام الذي من اجله تم إبرام العقد.

     ومن جانب آخر ليس كل عقد تبرمه الإدارة يكون عقدا إداريا ومن ثم يخضع للقضاء الإداري فهناك عقود تخضع للقضاء العادي على الرغم من كون الإدارة طرفا فيها وهي عقود الإدارة الخاصة, وهناك معايير اعتمدت في تمييز العقد الإداري عن غيره .

ماهية العقد الطبي


تُعدّ مسألة تعريف العقد الطبي وتحديد ماهيته وتمييزه مما يشتبه به من عقود، وبيان خصائصه مسألة في غاية الأهمية خصوصاً أن الكثير من المهتمين بدراسة هذا النوع من العقد لم يوردوا تعريفاً ملائماً له، إذ اكتفوا بتعريف العمل الطبي وحده على اعتبار أن العقد الطبي عقد يبرم بين الطبيب والمريض وهي مسألة بدهية، كما أن الكثير من الفقهاء قد خلط بين العقد الطبي وغيره من العقود، فهناك من يرى أن العقد الطبي هو عقد عمل أو إجارة خدمات.
وذهب آخرون إلى أنه عقد مقاولة، صحيح أن العقد الطبي قد يلتبس في بعض جوانبه مع هذه العقود إلا أن هذا لايعني التطابق بينهما، كما حرصنا ضمن إطار هذا المبحث على تمييز العقد الطبي من عقد الاستشفاء لأنهما يشتركان في الغاية إلا أنهما مختلفان في عدة وجوه، فضلاً عن تمييزه عن عقد الاذعان وعقد الوكالة وصولاً إلى المحطة الأخيرة من هذا المبحث التي تناولت الخصائص التي يختص بها العقد الطبي.
في ضوء ما تقدم فان هذا المبحث ينقسم إلى ثلاثة مطالب نتناول في الأول: تعريف العقد الطبي، وفي الثاني: تمييز العقد الطبي مما يشتبه به من عقود، أما المطلب الثالث: فانه يتناول خصائص العقد الطبي.

المطلب الأول
تعريف العقد الطبـي
تكمن خصوصية العقد الطبي من غيره من العقود بأن محله هو جسم الإنسان ولما لهذا الجسد من حرمة ومعصومية، فلا يجوز المساس به إلا لضرورة العلاج أو الحاجة إليه لأن الحق في الحياة، والحق في السلامة الجسدية هما من الحقوق التي يجتمع فيها حق الله تعالى وحق العبد، فضلاً عن هذا فان العلاقة التي تنشأ بين الطبيب والمريض هي علاقة غير متكافئة، فالطبيب مهني على درجة عالية من المعرفة والتخصص الفني والمريض شخص
يجهل ما يتعلق بالمرض([1])، أو بفن العلاج ومما يزيد من حدة عدم التكافؤ هو أن أحد
طرفي العقد وهو المريض يعاني من علة جسدية أو نفسية أو عقلية يلجأ إلى الطبيب بحثاً عن العلاج.
كما أن العلاقة بين الطبيب والمريض تقوم على الثقة، وليس من مقتضى هذه الثقة أن يوقع المريض لطبيبه على بياض ليفعل به ما يشاء، إنما هي ثقة متبادلة تفرض المصارحة والتعاون المثمر بين طرفي العقد فمتى شعر المريض بأن الطبيب يخفي عنه شيئاً أو يتعمد أن يكذب عليه فقد الثقة به، ويُّولد هذا في نفس المريض شعوراً باليأس والإحباط أو يدفعه ذلك إلى تغيير طبيبه والانتقال إلى طبيب آخر غيره يكشف له عن حقيقة علته.
إذاً للعقد الطبي طرفان المريض (أو مَنْ ينوب عنه) والطبيب، ويرد هذا العقد على جسم الإنسان ويقوم على الثقة بين طرفيه غير المتكافئين وأن غالبية التشريعات الخاصة محل المقارنة لم تضع تعريفاً للعقد الطبي وحتى غالبية الفقهاء المختصين بهذا الجانب لم يضعوا تعريفاً للعقد محل البحث، وإنما سلطوا الضوء على تعريف العمل الطبي عموماً، وسوف نستعرض ذلك في هذا المطلب كي نصل من خلاله إلى وضع تعريف ملائم للعقد الطبي.
فقد عرف جانب من الفقه([2]) العمل الطبي بأنه:
"العمل وفق العلم المختص بأحوال بدن الإنسان ونفسه لحفظ حاصل الصحة واسترداد زائلها".
في حين عرفه جانب آخر من الفقهاء([3]) بأنه:
"كل نشاط يرد على جسم الإنسان أو نفسه ويتفق في طبيعته وكيفيته مع الأصول العلمية والقواعد المتعارف عليها نظرياً وعلمياً في علم الطب ويقوم به طبيب مصرح له قانوناً به يقصد الكشف عن المرض وتشخيصه وعلاجه لتحقيق الشفاء أو تخفيف آلام المرض والحد منها أو منع المرض أو بهدف المحافظة على صحة الأفراد أو تحقيق مصلحة اجتماعية شريطة توافر رضاء من يجري عليه هذا العمل".
فعلى الرغم من وجاهة التعاريف السابقة إلا أنها تبقى محل نظر وذلك لأن التعريف الأول جاء مقتضباً دون توضيح، أما التعريف الثاني فمع وجاهته لما أشار إليه من تفاصيل في ضرورة ملاءمة العمل الطبي للأصول العلمية النظرية والعملية وتحديده لمراحل العمل الطبي فحصاً وتشخيصاً وعلاجاً من أجل تحقيق الغاية المرجوة وهي شفاء المريض أو التخفيف من حدة الألم أو منع الإصابة بالأمراض أو المحافظة على صحة المجتمع بأسره، وهذا كله يجب أن يكون مقروناً برضاء من يجري عليه العمل الطبي، إلا أنه يبقى محل نظر لأنه جاء بصيغة الشرح للتعريف وليس تعريفاً، كما أن الغاية من العمل الطبي تعدّ أمراً بدهياً ولانجد ضرورة للإشارة اليها.
وبناءً على ما تقدم، ومن أجل إعطاء تعريف ملائم للعمل الطبي لابد من الأخذ بنظر الاعتبار العناصر الآتية فيه:
1. تحديد طبيعة النشاط أو العمل الطبي بأنه يرد على جسم الإنسان أو نفسه.
2. موافقة العمل الطبي لأصول مهنة الطب، وهذا أمرٌ لابد منه لأن مخالفة العمل لأصول مهنة الطب تخرجه عن أن يكون عملاً طبياً.
3. تحديد المراحل التي قد يمر بها العمل الطبي بالفحص أو التشخيص أو العلاج وهذا لايعني أن العمل الطبي لايتم إلاّ بهذه المراحل مجتمعة فقد يكون العمل الطبي فحصاً أو تشخيصاً أو علاجاً وهكذا.
4. اشتراط رضاء المريض أو من ينوب عنه بالعمل الطبي، وهذا هو أهم عنصر من
عناصر العمل الطبي لأنه لايمكن ممارسة أي عمل طبي على المريض إلا برضاه
أو برضا منْ ينوب عنه لأن الرضاء شرط من شروط ممارسة العمل الطبي وأساس من أسس مشروعيته، وانتفاؤه يقيم المسؤولية على الطبيب كأصل عام.
فمن خلال مراعاة هذه العناصر يمكننا تعريف العمل الطبي بأنه:
كل عمل يرد على جسم الإنسان أو نفسه برضاه المستنير أو برضاء من ينوب عنه وفقاً للأصول العلمية والقواعد المتعارف عليها بقصد الكشف عن المرض أو تشخيصه
أو علاجه.
وبعد أن حددنا ماهية العمل الطبي يمكننا أن نصل إلى تعريف ملائم للعقد الطبي بأنه:
عقد بين الطبيب والمريض أو من ينوب عنه، محله جسم الإنسان يلتزم بمقتضاه الطبيب بفحص المريض أو تشخيص علته أو علاجه بعد الحصول على رضاه الحر المستنير بمقابل أو دون مقابل وفقاً للأصول العلمية والمهنية.
إن التعريف المقترح جاء بصيغة ملائمة وذلك للأسباب الآتية:
1. أنه حدد طرفي العقد الطبي بالأطباء المخولين قانوناً حصراً وبالمرضى.
2. أنه أدرج العقد الطبي ضمن العقود التي تقوم على الاعتبار الشخصي، فأضفى عليه خصوصية تميزه من غيره من العقود، بايراده على جسم الإنسان ولما لهذا الجسد من معصومية أقرتها الأديان السماوية والقوانين الوضعية.
3. حدد طبيعة التزام الطبيب، لأن الأصل في التزامه بموجب العقد الطبي هو ببذل عناية واستثناءً يكون بتحقيق غاية.
4. كما أشار إلى أطراف العقد الطبي الذي يجري في الغالب بين الطبيب والمريض، لكن في الأحوال التي يكون فيها المريض صغيراً، أو فاقداً لوعيه، أو مصاباً بعاهة تمنعه من التعبير عن إرادته، ففي هذه الفروض يبرم العقد بين الطبيب ومَنْ ينوب عن المريض كالولي أو الوصي أو الأقارب أو الأشخاص المقربين منه.
5. فرضَ التزاماً ضرورياً على عاتق الطبيب وهو الحصول على رضا المريض أو رضا مَنْ ينوب عنه رضاءاً حراً مستنيراً، هذا الرضا الذي هو بمثابة نزول المريض عن الحصانة التي يقررها القانون لسلامته فبموجبه تنتفي عن العمل الطبي صفة الاعتداء على حق يحميه القانون فيغدو بذلك فعلاً مباحاً.
6. مقابل التزامات الطبيب نحو مريضه، يفرض العقد الطبي التزامات أخرى على المريض نحو طبيبه وإحدى هذه الالتزامات هو المقابل الذي يحصل عليه الطبيب من مريضه، إلا أن هذا ليس مطلقاً فقد يقوم الطبيب بتنفيذ التزاماته نحو المريض دون مقابل([4]).


المطلب الثاني
تمييز العقد الطبـي مما يشتبه به من عقود
على الرغم من الخصوصية التي يتميز بها العقد الطبي من غيره من العقود، قد يلتبس في بعض جوانبه مع بعض العقود كعقد العمل، وعقد المقاولة، وعقد الاستشفاء وعقد الاذعان وعقد الوكالة.
ومن اجل ابراز خصوصية العقد محل البحث ارتأينا في هذا المطلب تمييزه من هذه العقود للوصول إلى تكييفه وطبيعته  وذلك في فروع خمسة، مخصصين الفرع الأول لتمييز العقد الطبي من عقد العمل، والثاني لتمييزه من عقد المقاولة، أما الفرع الثالث فسوف نتناول فيه تمييزه من عقد الاستشفاء وخصص الفرع الرابع لتمييز العقد الطبي من عقد الإذعان بينما تم تخصيص الفرع الخامس لتمييز العقد الطبي من عقد الوكالة.

الفرع الأول
تمييز العقد الطبي من عقد العمل
ذهب جانبٌ من الفقهاء الفرنسيين([5]) إلى اعتبار العقد الطبي عقد عمل، أو عقد اجارة خدمات، معززين رأيهم هذا، بأن عقد العمل يقوم على أساس تقديم الخدمات للعاملين تجاه رب العمل مقابل أجر كما هو الحال بالنسبة إلى الأطباء الذين يقومون بتقديم خدماتهم الطبية للمرضى مقابل أجر أيضاً، كما استندوا في اتجاههم هذا إلى قانون مقترح ذي الرقم (1357) بخصوص وضع الأطباء وعلاقتهم بالمرضى والذي طُرِح أمام الجمعية الوطنية ومقتضاه هو إضافة مادة في قانون العمل برقم (764/ف6)([6]) تنص على الآتي:
"وإن كان الطبيب يمارس وظائفه الطبية باستقلالية تامة في علاقته بالمؤسسة التي يعمل فيها، إلا أن هذا لا ينطبق مقابل المبدأ الذي يؤكده القضاء ألا وهو مطابقته لعقد العمل ذاته".
فهذا النص أكد على استقلالية الطبيب في ممارسته لمهنته عن المؤسسة التي يعمل فيها، إذ يبقى الطبيب حراً في اختيار العلاجات التي يراها متناسبة مع حالة المرضى العاملين في هذه المؤسسة دون رقابة تفرض عليه من قبلها، لكن يؤخذ عليه مسألة استناده لمبدأ أقره القضاء يقضي بمطابقة العقد الطبي لعقد العمل لأنه قد يتطابق العقدان من حيث علاقة الطبيب الإدارية بالمؤسسة لا من حيث علاقة الطبيب بالمريض لأن الطبيب يلتزم تجاه المؤسسة بالقدوم والانصراف على سبيل المثال في أوقات معينة.
لذلك لا يمكن التعويل على هذا الاتجاه لتحديد طبيعة العقد الطبي، فصحيح أن العقد الطبي يقترب من عقد العمل في بعض الوجوه، لكن مقابل ذلك هناك بعض الجوانب التي يفترق بها عنه.
ومن أجل التوصل إلى مدى صحة هذا الاتجاه لابد من أن نحدد المسائل التي يقترب فيها عقد العمل من العقد الطبي، وابتداءً نقول أنها لا تكفي للتطابق ما بين العقدين، ومن ثم نتطرق إلى المسائل التي يفترق فيها وذلك في نقطتين:
أولاً. أوجه الشبه بين عقد العمل والعقد الطبي:
1. من اوجه الشبه التي دعت الفقه الفرنسي إلى اعتبار العقد الطبي عقد عمل هو تعريفهم للأخير باعتباره عقداً يتعهد به أحد طرفيه بان يخصص عمله لخدمة الطرف الأخر، فمن هذا المنطلق يتضح مدى التقارب بين العقدين، فكما يلتزم العامل أو يتعهد بتخصيص عمله لخدمة رب العمل، يلتزم الطبيب بأن يخصص عمله الطبي لخدمة  الطرف الآخر في العقد الطبي وهو المريض([7]).
2. كلا العقدين يعتبران من العقود الرضائية الملزمة للجانبين التي تفرض التزامات متقابلة على طرفيها([8]).
3. كما أن كلا العقدين يعدان من عقود المعاوضة، فكما يلتزم المريض تجاه طبيبه بالأجر يلتزم رب العمل بالأجر تجاه عماله.
4. كما نعلم أن العقد الطبي يفرض على الطبيب التزاماً بحفظ أسرار مرضاه، فالأمر كذلك في عقد العمل، إذ يفرض هذا العقد على العامل التزاماً بحفظ أسرار رب العمل الصناعية والتجارية حتى بعد انقضاء العقد.
ولكن أوجه الشبه المذكورة آنفاً لا تقتصر على عقد العمل وحده، فأغلبية العقود هي من عقود المعاوضة الملزمة للجانبين.
وعلى الرغم من ذلك، نجد العقد الطبي يختلف عن عقد العمل من عدة وجوه.
ثانياً. أوجه الاختلاف بين عقد العمل والعقد الطبي:
يختلف العقد الطبي عن عقد العمل من حيث:
1. أن للمدة اعتباراً في عقد العمل ولها أحكاماً خاصة بذلك، في حين لم نجد من هذا القبيل في العقد الطبي إذ لم يكن للمدة أي اعتبار يذكر، وبمعنى آخر لا يمكن للمريض
أن يشترط على طبيبه فترة زمنية يحددها بنفسه لإجراء عملية جراحية على سبيل
المثال.
2. في الواقع العملي لمهنة الطب، إذا اكتشف الطبيب من خلال علاقته بمرضاه
عقاراً أو اختراعاً معيناً فان ذلك لايمنحه براءة اختراع لأن المادة (3/ ف2)
من قانون براءة الاختراع والنماذج الصناعية العراقي نصت على ما يأتي:

"لا تمنح البراءة في الحالات الآتية:
1. .................
2. التركيبات الصناعية والصيدلانية.
3...........
4. ..........".

في حين لو أن العامل في علاقته برب العمل وفق في اختراع ما، فان ذلك يمنحه حق تسجيل الاختراع باسمه أو باسم رب العمل، هذا في الأحوال التي يخصص فيها مقابل أجر للاختراع، أما إذا لم يخصص في مقابل الاختراع أجراً فللمخترع (العامل) الحق بطلب التعويض العادل من رب العمل([9]).
3. أن شخصية الطبيب في العقد الطبي تعد محل اعتبار، فان وفاته تؤدي إلى انقضاء العقد وبالمقارنة مع عقد العمل فان هذا العقد لا ينقضي بوفاة رب العمل إلا إذا كانت شخصيته قد روعيت في العقد ولكنه ينفسخ بموت العامل.
4. من حيث علاقة التبعية: ففي عقد العمل توجد علاقة تبعية بين العامل ورب العمل، لكن في العقد الطبي التبعية قد توجد بين الطبيب ومن يعمل بمعيته كالمخدر أو الممرض، ولا مجال للقول بوجود علاقة تبعية بين الطبيب والمريض، لأن المريض لا يقابل العامل، وينبغي للطبيب أن يتمتع بحرية تامة لتطبيق أصول مهنته وفنه([10]).
فالتبعية إذاً نسبية لأن مهنة الطب أخذت تتطور وتتقدم مع تقدم وتطور الحياة العصرية، فأخذت تظهر بأشكال وأوضاع جديدة، إذ أنها لم تبق كما كانت أول ظهورها فردية، بل إن أصحاب المعامل، والشركات، وحتى المستشفيات العامة، والخاصة أخذوا يتفقون مع الأطباء لتطبيب مَنْ يمرض أو مَنْ يصاب من عمالهم، فالعقد الطبي أخذ
يتأثر بمثل هذه العقود مما أدى إلى ظهور نوع من علاقة التبعية إلا أنها نسبية لا مطلقة، حيث تظهر علاقة التبعية بين الطبيب والمنشأة التي يعمل لديها، فالطبيب المتعاقد مع هذه الجهات يعد ملزماً تجاه المستشفى أو الشركة أو المعمل بأن يَقْدِم على صورة معينة، وفي أوقات خاصة، إذ أن التبعية في هذا الفرض هي تبعية إدارية أو تنظيمية ولا تعد من قبيل التبعية الفنية، إذ يبقى الطبيب حراً في اختيار العلاج المناسب دون رقابة عليه من هذه المؤسسات، كما تظهر علاقة التبعية في الفرض الذي يتعاقد فيه أحد الأشخاص مع طبيب معين على أن يقيم معه في منزله لمتابعة حالته الصحية، فالتبعية هنا تتحقق بتحديد مكان إقامة الطبيب والساعات التي يقدم فيها خدماته الطبية، إلا أنها تبقى نسبية حيث لا تتحقق بشأن الناحية الفنية للعلاج، إذ يبقى الطبيب حراً في تقديم العلاجات التي تناسب حالة المريض الصحية.
ولكن تجدر الإشارة إلى إحدى الحالات التي تتحقق فيها التبعية الفنية والتنظيمية في آن واحد وهذا بيّن من حالة الطبيب المتخرج حديثاً الذي يعمل في عيادة أو مستشفى طبيب قديم، إذ يعمل تحت إشرافه ورقابته فيشرف الطبيب القديم على الطبيب حديث التخرج إشرافاً فنياً فيوجهه في أصول ودقائق مهنة الطب ويراقب كيفية تنفيذه للأعمال المطلوبة منه، فضلاً عن أوقات قدومه وانصرافه([11]).
5. وما يميز العقد الطبي عن عقد العمل هو أن الأخير من العقود المسماة التي نظمها
المشرع بنصوص قانونية، وأحكام ثابتة، في حين أن العقد الطبي لم يرد ضمن العقود المسماة.

وبناءً على ذلك نستبعد هذا الاتجاه، وان أيده الفقه الفرنسي، إذ لايمكننا التعويل
عليه، لأنه أعطى حكماً في طبيعة العقد الطبي معتمداً فيه على نص مقترح غير مقنن،
وعلى نزرٍ قليل من القرارات التي أصدرتها المحاكم الفرنسية، فان مثل هذه
القرارات بالإمكان اعتبارها بمثابة الاستثناء علماً أن الاستثناء لايقاس عليه ولا يتوسع
فيه، باحثين عن معيار آخر لنصل من خلاله إلى تحديد طبيعة العقد
الطبي.



الفرع الثاني
تمييز العقد الطبي من عقد المقاولة
ذهب قسم آخر من الفقهاء([12]) إلى أن العقد الطبي هو عقد مقاولة في أغلب الأحوال، على اعتبار أن هذا العقد يقوم على أساس الاتفاق بين الطبيب والمريض الذي بموجبه يقوم الأول بعلاج الثاني وتقديم خدماته إليه مقابل أجر معلوم، وتقديم الخدمات أو العلاج عمل مادي، ولكن لاينفي ماديته هذه من أن يكون عملاً عقلياً.
 إلا أن أغلب الأحوال هذه، لا يمكن تعميمها ودليلنا في ذلك هو عدم التطابق بين العقدين وإن اقتربا في بعض الوجوه.
وفي ضوء ذلك سوف نتناول أوجه الشبه والاختلاف بين العقد الطبي وعقد المقاولة وذلك في نقطتين:

أولاً. أوجه الشبه بين عقد المقاولة والعقد الطبي:
يقترب عقد المقاولة من العقد الطبي في الأمور الآتية:
1. إن كلا العقدين يعد من حيث الأصل من العقود الرضائية التي لا تتطلب شكلاً معيناً إلا في الحالات التي تتفق فيها الأطراف على شكلية معينة.
2. كما أن كلا العقدين يُعَّدْ من العقود الملزمة للجانبين التي تفرض التزامات متقابلة على طرفيها (المقاول ورب العمل في عقد المقاولة) و (المريض والطبيب في العقد الطبي) وعليه إذا لم يقم أحد الطرفين بتنفيذ التزامه، جاز للطرف الآخر فسخ العقد مع التعويض وفقاً للقواعد العامة.
3. كما يقترب العقد الطبي من حيث الأصل من عقد المقاولة بأنهما من عقود المعاوضة، إذ يلتزم المريض بالأجر، تجاه قيام الطبيب بعمله، كما يلتزم رب العمل بالأجرة تجاه المقاول.
4. ويقترب العقد الطبي من عقد المقاولة، في أنَّ كلاً من المريض ورب العمل في الغالب هم من عامة الناس وعديمي الخبرة مقارنة بالطبيب والمقاول، مما يفرض على الطبيب والمقاول التزاماً بتبصيرهم تبصيراً كافياً من أجل أن تتوازن كفتا العقد.
وعلى الرغم من ذلك، فان أوجه الشبه هذه وحدها لاتكفي للقول بأن العقد الطبي هو عقد مقاولة؛ فغالبية العقود المدنية تشترك مع بعضها بهذه النقاط، هذا ما يدعونا إلى عدم التطابق بين العقد الطبي، وعقد المقاولة فان اشتركا في بعض النقاط فانهما يفترقان في بعضها الآخر.

ثانياً. أوجه الاختلاف بين عقد المقاولة والعقد الطبي:
يختلف العقد الطبي عن عقد المقاولة في الجوانب الآتية:
1. كما نعلم أن الأصل في التزام الطبيب في العقد الطبي هو التزام بوسيلة، وهذا على
خلاف التزام المقاول في عقد المقاولة، لأن رب العمل يطلب عملاً يتحتم إنتاجه
وما على المقاول إلا أن يختار الوسائل المختلفة التي تؤدي في النهاية إلى الوصول إلى النتيجة المرجوة([13]).
2. ويختلف عقد المقاولة عن العقد الطبي من حيث أن التزام الطبيب يرد على جسم الإنسان، في حين أن التزام المقاول يرد في الغالب على أشياء جامدة غير حية.
3. كما أن شخصية الطبيب في العقد الطبي تعدّ محل اعتبار، فاذا مات ينقضي العقد، في حين أن الأصل في عقد المقاولة أن شخصية المقاول ليست محل اعتبار، وعليه لا ينقضي العقد بموت المقاول إلا إذا كانت مؤهلاته الشخصية محل اعتبار، كما أن الطبيب لا يستطيع أن يوكل علاج المريض لطبيب آخر، في حين أن المقاول يستطيع ذلك من خلال المقاولة من الباطن إلا إذا اتفق على خلاف ذلك([14]).
4. في عقد المقاولة العادي يستطيع رب العمل أن يطلب انجاز العمل على نفقة المقاول، وهذا ما لا يستطيعه المريض في العقد الطبي، لأن إرادة المريض حرة في اختيار طبيبه، إلا أن له حق الرجوع على الطبيب الأول بالتعويض.
5. ويختلف عقد المقاولة عن العقد الطبي من حيث، أن الأخير غير لازم لا من جهة الطبيب ولا من جهة المريض، فيستطيع المريض أن يرجع عنه ولا يجبر على أن يبقى تحت علاج طبيب لا يريده أو أصبح لايثق به، كما يستطيع الطبيب أن يرجع في العقد
ولا يمكن إكراهه، وما هذا إلا تطبيقاً لمبدأ حرية الطبيب في اختيار مرضاه مقابل حرية المريض في اختيار طبيبه.
على الرغم من كل هذا، ومع قناعتنا بأن مهنة الطب لا تتفق مع عقد المقاولة فإن هناك بعض الحالات التي قد يقترب فيها العقد الطبي من عقد المقاولة، كما هو الحال بالنسبة إلى الأعمال المختبرية، أو ما يسمى بالتحاليل الطبية، أو التزام مصرف الدم، ونقله، ونقل الأمصال، والتركيبات الصناعية كطقم الأسنان، والأطراف الصناعية، لأن طبيب الأسنان عندما يتعاقد على عمل أسنان صناعية، أو طبيب الكسور عندما يتعاقد على عمل أطراف صناعية مثلاً، فانهما يسخران الوسائل التقنية في مثل هذه الفروض من أجل تحقيق نتيجة معينة بالذات وعلى شكل مقاولة.
إلا أن هذه الحالات لايمكن تعميمها، لأن النصوص القانونية التي نظمت عقد المقاولة لايمكن أن تنطبق على العقد الطبي، لأن فحواها يتعلق عادةً بتسليم العمل أو يتعلق بمسألة العيب في العمل أو المادة([15]).
وهذا بدوره يقودنا إلى القول بعدم التطابق بين العقد الطبي، وعقد المقاولة، بالرغم من رفعة مقام الفقهاء الذين وصفوا العقد الطبي في أغلب الأحوال بأنه مقاولة إلا أن هذا الاتجاه يبقى محل نظر، إذ لايمكن تعميمه.



([1]) تطلق على المرض ألفاظ أخرى كلفظ الاعتلال (Sickness) أو السقم (Disease) ، ينظر:
- د. هشام ابراهيم الخطيب و د. عماد ابراهيم الخطيب و د. العبد عبد القادر العكايلة، الطبيب المسلم وأخلاقيات المهنة، مكتب الجامعة الأردنية، عمان، 1989، ص35.
([2]) د. قيس بن محمد آل الشيخ مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية في الشريعة الإسلامية، مكتبة الفارابي، ط1، سوريا- دمشق، 1991، ص44.
([3]) د. أحمد السعيد الزقرد، الروشيتة (التذكرة) الطبية بين المفهوم القانوني والمسؤولية المدنية للصيدلي- دراسة مقارنة، بدون مكان طبع، 1993، ص4.
وبالمعنى نفسه تقريباً: د. محمود نجيب حسني، أسباب الإباحة في التشريعات العربية، محاضرات لقسم الدراسات القانونية، دون مكان طبع، 1962، ص114؛ د. أسامة عبدالله قايد، المسؤولية الجنائية للأطباء، دار النهضة العربية، ط2، دون مكان طبع، 1990، ص259؛ د. محمود محمد عبد العزيز الزيني، مسؤولية الأطباء، دون مكان طبع، 1993، ص176.
([4]) لمزيد من التفصيل حول الأجرة، يراجع:
- د. أسعد عبيد عزيز الجميلي، الخطأ في المسؤولية الطبية المدنية- دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه مقدمة إلى كلية القانون، جامعة بغداد، 1991، ص52.
([5]) تبنى هذا الرأي كلُّ من:
-  Besserve- Le contract medicale, these, Paris, 1955, P.86.
- Louis melennec, traite de droit medical, tom2 Le contract medical, la responsabilite civile du medecin maloine, S.A.E. diteur, Paris, 1982, P.16.
([6]) Louis melennec, Op.Cit., P.17.
([7]) J. Nousbaum Relations  du  travil  et  gestion  du  personel I.E.P.les course  de droit, Paris,  1972, P. 197.
([8]) ينظر في خصائص عقد العمل: د. يوسف الياس، قانون العمل العراقي، ج1، ط1، مؤسسة الثقافة العالمية، بغداد، 1980، ص65.
([9]) ينظر: المادة (9) من قانون براءة الاختراع والنماذج الصناعية العراقي ذي الرقم (65) لسنة 1970.
([10]) د. عبد الرشيد مأمون، عقد العلاج بين النظرية والتطبيق، دار النهضة العربية، القاهرة، دون سنة طبع، ص108.
- ابراهيم علي حمادي الحلبوسي، الخطأ المهني والخطأ العادي في إطار المسؤولية الطبية- دراسة مقارنة، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية القانون، جامعة بابل، 2002، ص98 ومابعدها.
([11]) د. محمد السعيد رشدي، عقد العلاج الطبي، مكتبة سيد عبدالله وهبة، القاهرة، 1986، ص48.
([12]) ينظر في تفصيل ذلك:
- د. عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، العقود الواردة على العمل، المجلد الأول، ج7، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، 1964، ص18 ؛
- Faraon, La responsabilite civile du medecin en droit Francais, delictuelle, these, Paris, 1951, P.39.
([13]) د. حسن زكي الإبراشي، مسؤولية الأطباء والجراحين المدنية، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة، دون سنة طبع، ص98؛ د. عبد الرشيد مأمون، المصدر السابق، ص113؛ د. محمد عادل عبد الرحمن، المسؤولية المدنية للأطباء، أطروحة دكتوراه، جامعة الزقازيق، 1985، ص48.
([14]) د. محمد لبيب شنب، شرح أحكام عقد المقاولة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1963، ص43؛
أستاذنا د. جعفر الفضلي،
الوجيز في العقود المدنية، مطبعة التعليم العالي، الموصل، 1989، ص465.
([15]) ينظر: المواد من (864-881) من القانون المدني العراقي.